إنّ المعروف بين المفسرين والمحدّثين، هو إنّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين، وقال: (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي).
غير إنّ تحقيق مفاد الآية وتبيين المراد من أهل البيت فيها وانطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين:
1- أهل البيت لغة وعرفاً.
2- أهل البيت في الآية المباركة.
وإليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر .
1- أهل البيت لغة وعرفاً:
هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم، ويمكن تحديد مفهوم (الأهل) من موارد استعماله فيقال:
* أهل الأمر والنهي.
* أهل الإنجيل.
* أهل الكتاب.
* أهل الإسلام.
* أهل الرجل.
* أهل الماء.
وهذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة (أهل) تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه، فأهل الأمر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر، وأهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام.
وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد، قال ابن منظور: آل الرجل: أهله، وآل اللّه وآل رسوله: أولياؤه، أصلها أهل ثم أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً، كما قالوا: آدم وآخر، وفي الفعل آمن وآزر .
وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم أبرهة على مكة المكرمة، وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال:
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وعلى ما ذكرنا، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه، فأهل الرجل مثلاً هم أخص الناس به، وأهل المسجد، المتردّدون كثيراً إليه، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد
استعمال هذه الكلمة لا نتردّد في شمولها للزوجة والأولاد، بل وغيرهم ممّن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية.
هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة، ولنأت ببعض نصوص أئمّة اللغة.
قال ابن منظور: أهل البيت سكانه، وأهل الرجل أخص الناس به، وأهل بيت النبي : أزواجه وبناته وصهره، أعني: علياً (عليه السلام)، وقيل: نساء النبي والرجال الذين هم آله.(1)
فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم أوّلاً، وتوضيح معناه في القرآن الكريم ثانياً، كما أشار بقوله: (قيل) إلى ضعف القول الآخر، لأنّه نسبه إلى القيل.
وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل بن أحمد: أهل الرجل: زوجه، والتأهّل، التزوّج، وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل البيت: سكّانه، وأهل الإسلام: من يدين به.(2)
وقال الراغب في (مفرداته): أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم النسب وتعارف في أُسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت.(3)
وقال الفيروز آبادي: أهل الأمر: ولاته، وللبيت سكّانه، وللمذهب من يدين به، وللرجل زوجته كأهله، وللنبي أزواجه وبناته وصهره علي (رضي اللّه تعالى عنه) ـ أو نساؤه والرجال الذين هم آله.(4)
هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام أهل اللغة كلّها تعرب عن أنّ مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت، وأهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.
هذا هو الحق الذي لا مرية فيه والعجب من إحسان إلهي ظهير الذي ينقل هذه النصوص من أئمّة اللغة وغيرهما ثم يستظهر إنّ أهل البيت يطلق أصلاً على الأزواج خاصة، ثم يستعمل في الأولاد والأقارب تجوّزاً، ثم يقول: هذا ما يثبت من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة في قصة إبراهيم بالبشرى، فقال اللّه عزّ وجلّ في سياق الكلام: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(5) وقال: فاستعمل اللّه عزّ وجلّ هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم (عليه السلام) لا غير، وهكذا قال اللّه عزّ وجلّ في كلامه المحكم في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأهله امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً)(6)، فالمراد من الأهل زوجة موسى (عليه السلام)، وهي بنت شعيب.(7)
نحن نسأل الكاتب من أين استظهر من كلمات أهل اللغة إنّ (الأهل) تطلق أصلاً على الأزواج خاصة، ثم تستعمل في الأولاد تجوّزاً ؟!
أليس قد تقدّم لنا كلام ابن منظور: أهل الرجل: أخص الناس به؟ ! أليس الأولاد أخص الناس بالرجل؟ ومن فسره بقوله: أهل الرجل زوجه لا يريد اختصاصه بالزوج، بل يشير إلى أحد موارد استعماله، ولأجل ذلك يستدركه ويصرح بقوله: أهل الرجل: أخص الناس به.
ثم نسأله عن دلالة الآيتين على اختصاص الأهل بالأزواج وهل في منطق اللغة والأدب جعل الاستعمال دليلاً على الانحصار؟ فلا شك إنّ الأهل في الآيتين أُطلق على الزوجة، وليس الإطلاق دليلاً على الانحصار، على أنه أُطلق في قصة الخليل وأُريد الزوجة والزوج معاً، أي نفس الخليل بشهادة قوله تعالى: (عليكم أهل البيت) والإتيان بضمير الجمع المذكر، وإرادة واحد منهما وحمل الخطاب العام على التعظيم، لا وجه له في المقام.
وحصيلة الكلام: إنّ مراجعة كتب اللغة، وموارد استعمال الكلمة في الكتاب والسنّة تعرب عن أنّ مفهوم (الأهل) هو المعنى العام وهو يشمل كل من له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة مؤكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك، من غير فرق بين الزوجة والأولاد وغيرهم، وانّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق، كما أنّ تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن واستعمالها كما عرفت في الآيات الماضية.
هذا هو الحق في تحديد المفهوم، فهلّم معي نبحث عما هو المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة، وهل أُريد منه كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه؟ وليس هذا بشيء غريب، لاَنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد منه جميع الأصناف والأقسام كما يطلق ويراد منه حسب القرائن بعضهم، وقد عرفت أنّ المراد من الأهل في قصة موسى زوجته وفي قصة إبراهيم زوجته، وعلى هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة والأولاد وغيرهما إلاّ أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص، والمدّعى انّه قد قامت القرائن على إرادة صنف خاص منهم، وتتبيّـن في البحث الآتي:
2- أهل البيت في الآية المباركة؟
اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من (أهل البيت) في الآية المباركة على أقوال، غير إنّ العبرة بقولين، والأقوال الأُخر شاذة لا يعبأ بها، وإنّما اختلقت لحل الإشكالات الواردة على القول الثاني كما سيوافيك بيانها في آخر البحث.
1. المراد بنت النبي وصهره وولداهما الحسن والحسين (عليهم السلام).
2. نساء النبي (صلى الله عليه وآله).(8)
ولا بد من إمعان النظر في تعيين المراد بعد قابلية اللفظ لشمول كلتا الطائفتين، فيقول: إنّ هناك قرائن تدل بوضوح على أنّ المراد من هذه الكلمة جماعة خاصة منتمين إلى البيت النبوي بوشائج خاصة لا كل المنتمين إليه، وإليك تلك القرائن:
• القرينة الأولى: اللام في (أهل البيت) للعهد
لا شك أنّ اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه: (إنّ الإنسان لفي خُسر).(9)
وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه: (يَا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).(10)
وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب.
ولا يمكن حمل اللام في (البيت) على الجنس أو الاستغراق، لاَنّ الأَوّل إنّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً)(11)، ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت، كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع البيوت في العالم، أو بيوت النبي، وإلاّ لناسب الإتيان بصيغة الجمع فيقول: أهل البيوت، كما أتى به عندما كان بصدد إفادة ذلك، وقال في صدر الآية: (وقرن في بيوتكن).
فتعين أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص، معهود بين المتكلم والمخاطب، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل هو بيت أزواجه، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين (عليهم السلام)؟
لا سبيل إلى الأوّل، لأَنّه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، ولو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم، وهذا ما اتفقت الأُمّة على خلافه.
أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها، وإنّما الكلام في شمولها لأزواج النبي كما سيوافيك بيانه.
هذا كلّه على تسليم إنّ المراد من البيت هو البيت المبني من الأحجار والآجر والأخشاب، فقد عرفت أنّ المتعيّن حمله على بيت خاص معهود ولا يصح إلاّ حمله على بيت فاطمة، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.
وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق، كما في قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) ، وأُخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل: (بيت النبوة) و(بيت الوحي) تشبيهاً لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم أهلاً لذلك البيت، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب، وفي الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنوية الخاصة، ولقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(12)، لأنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وان تسبح اللّه وتمجّده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: (رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت) أرادوا أنّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة، ويخصّكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة.(13)
وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار إليها، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة (عليها السلام)، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.
ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) محادثة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه، قال ـ عندما جلس أمام الباقر (عليه السلام) ـ: لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر (عليه السلام): (ويحك، أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ * رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ)(14) فأنت ثم ونحن أُولئك) فقال له قتادة: صدقت واللّه جعلني اللّه فداك، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين(15).
وهذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الأفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة، وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم وأقصى ما عندهن أنهن كن مسلمات مؤمنات.
• القرينة الثانية: تذكير الضمائر
نرى أنّه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث، ولكنّه عندما يصل إلى قوله: (إنّما يريد اللّه ليذهب ...) يغير الصيغة الخطابية في التأنيث ويأتي بصيغة التذكير، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي؟ وإليك نص الآيات:
(يا نِسَاءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).(16)
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(17)
(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ آياتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إنّ اللّهَ كانَ لَطِيفَاً خَبِيراً).(18)
ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الأُولَى بهذه الخطابات:
1- لستن. 2- اتقيتن. 3- فلا تخضعن. 4- وقلن.
ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات:
1- قرن. 2- بيوتكن. 3- لا تبرجن. 4- أقمن. 5- آتين. 6- أطعن.
كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله:
1- واذكرن . 2- بيوتكن.
وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب ويقول:
1- عنكم. 2- يطهركم.
فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي؟!
أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه (صلى الله عليه وآله).
وقد حاول القرطبي التقصّي عن الإشكال فقال: إنّ تذكير الضمير يحتمل لأن يكون خرج مخرج (الأهل) كما يقول لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك؟ فيقول: هم بخير، قال اللّه تعالى: (أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت).(19)
ولكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب، إنّما إذا تقدّم (الأهل) وتأخّر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ (الأهل) في الآية كما يقول: (عنكم الرجس أهل البيت).
وأمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح، لاَنّ الخطاب فيها لإبراهيم وزوجته، فيصح التغليب تغليب الأشرف على غيره في الخطاب والمفروض في المقام إنّ الآية نزلت في زوجاته ونسائه خاصة فلا معنى للتغليب.
نعم إنّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه، هو أولاده وصهره وزوجاته، وهو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث، وسيوافيك إنّ بقية الأقوال كلها مختلقة لتصحيح الإشكالات الواردة على النظرية الثانية، فلاحظ.
• القرينة الثالثة: الإرادة تكوينية لا تشريعية
إن من سماتهم، كونهم معصومين من الذنب وذلك بدليل كون من الإرادة في قوله: (إنّما يريد اللّه ...) الإرادة التكوينية، التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة وتكون متحقّقة وثابتة في الخارج، وبما أنّ المراد هو إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم بالأسباب والمعدّات المنتهية إلى العصمة، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل. فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالأسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الإمام علي وزوجته والحسنين (عليهم السلام)، لاَنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الأسباب.
• القرينة الرابعة: إنّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدئ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34، وهي تخاطبهن تارة بلفظ (الأزواج) ومرتين بلفظ (نساء النبي) الصريحين في زوجاته، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ (أهل البيت) فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما.
الهوامش:
1- لسان العرب: ج 11 ص 29 مادة (أهل).
2- معجم مقاييس اللغة: ج 1 ص 150.
3- المفردات: ص 29.
4- القاموس المحيط: ج 3 ص 331.
5- سورة هود: الآية 73.
6- سورة القصص: الآية 30.
7- الشيعة وأهل البيت: ص 16 ص 17.
8- وهناك أقوال أُخر شاذة جداً.
9- سورة العصر: الآية 2.
10- سورة التوبة: الآية 73.
11- سورة المعارج: الآية 19.
12- سورة هود: الآية 73.
13- تفسير الكشاف ج 2 ص 107.
14- سورة النور: الآية 36 ـ 37.
15- الكافي: ج 6 ص 256 ـ ص 257.
16- سورة الأحزاب: الآية 32.
17- سورة الأحزاب: الآية 33 .
18- سورة الأحزاب: الآية 34 .
19- جامع الأحكام ج 14 ص 182.