شهد العالم الاسلامي خلال القرن العشرين انفتاحاً كبيراً على الفكر الديموقراطي ، واقيمت أنظمة برلمانية و انتخابات رئاسية في معظم البلاد الاسلامية ، ما عدا المملكة العربية السعودية التي ظلت تحتفظ بنظام شمولي مطلق يحتكر فيه الملك كل السلطات التشريعية و التنفيذية و فشلت في إحداث أي تطور ديموقراطي . و ربما كان لهذا الفشل عوامل عديدة ولكن أهمها الفكر السياسي الوهابي الرافض للديموقراطية . و رغم ان علاقة الحركة الوهابية مع النظام السعودي لم تكن على خير ، وكان يشوبها كثير من التوتر و الصراع بحيث كانت تفرز تيارات ثورية راديكالية تطالب أحياناً بقطع رأس النظام ، الا انها كانت تعيش أزمة فكرية سياسية محيرة تتردد فيها بين التكفير و الخروج أو الإرجاء و الخنوع ، و لا تجد بينهما مخرجاً. وهذا ما دفع بعض حركات المعارضة الوهابية للنظام السعودي كمنظمة (القاعدة) الى اعتماد استراتيجيات بديلة عن عملية الاصلاح الداخلي ، و ذلك بالتوجه للانتقام من الأعداء الخارجيين و تحميلهم كل المسؤولية عن تدهور الأوضاع السياسية الداخلية. ففي حين اعترضت منظمة (القاعدة) على التواجد العسكري الأميركي في بلاد الحرمين الشريفين ، و جهت كل غضبها على "المحتل الأميركي" وتغافلت عن الداعي والطالب للحماية الأميركية ، وهو النظام السعودي. و بدلاً من أن تطالب النظام بطرد القوات الأجنبية ، او تعمل من أجل تغييره سياسياً او تجد وسيلة للمشاركة في القرار السياسي والضغط على الحكومة من أجل تنفيذ سياسات شرعية منسجمة مع الدين الحنيف و المصلحة الوطنية.. بدلاً من ذلك وجدت نفسها مضطرة لخوض المعركة مع العدو الخارجي المحتل ونقل المعركة الى عقر داره.
وكان على زعيم منظمة (القاعدة) أسامة بن لادن أن يحكم على النظام السعودي بالكفر حتى يستطيع أن يخرج عليه ، لأنه لم يجد سبيلاً الى المعارضة السياسية السلمية الشعبية بعد أن أغلق النظام في وجه المعارضة والتغيير كل الأبواب . ولم يستطع الدعوة الى إقامة نظام ديموقراطي أو مجالس شورى حتى يتمكن هو وغيره من التعبير عن رأيه بصراحة وإجبار النظام الحاكم في السعودية على امتثال الحكم الشرعي أو الانقياد لإرادة الرأي العام في البلد ، لأنه لم يكن يؤمن بالخيار الديموقراطي من الأساس أو لأنه كان يرى الطريق الديموقراطي بعيدا وطويلا في ظل هيمنة الفكر السياسي الوهابي في البلاد.
من هنا كان يبدو بوضوح أن الأزمة هي أولاً أزمة الفكر السياسي داخل السعودية ، حيث اعتبر ابن لادن ومؤيدوه – من جهة - النظامَ السعودي "مرتداً وكافراً لأنه يخالف أهم مبدأ من مباديء التوحيد ويأتي بأكبر ناقض من نواقضه وهو الولاء للكفار" . ومن جهة أخرى اعتبر النظامُ السعودي وأنصارُه من كبار رجال الدين ، أسامةَ بن لادن وأتباعَه "خوارج ومتمردين ". ولم توجد بينهما لغة للحوار أو وسيلة للتفاهم ، في ظل انعدام الحياة السياسية الطبيعية في المملكة العربية السعودية وعدم وجود مجالس شورى منتخبة أو أحزاب سياسية أو صحافة حرة ، وهو ما دفع و يدفع بأي معارض للنظام للخروج والتمرد والعصيان والكفر التام بالنظام وتكفير أصحابه.
وعلى رغم قوة الانشقاق الذي قامت به المعارضة الراديكالية ، الا انها بدورها لم تقدم نظاماً سياسياً بديلاً عن النظام الاستبدادي المطلق القائم ، ولم تدع الى تطبيق الديموقراطية أو مشاركة الأمة في الحياة السياسية أو تأسيس قنوات دستورية للتعبير عن الرأي الآخر.
ومع ان النظام السعودي قدم خلال العقود الماضية كثيرا من الوعود بإقامة نوع من الديموقراطية ومجالس الشورى ، ولكن تلك الوعود لم تترجم الى واقع ملموس أو مؤسسات دستورية ، ليس بسبب الرغبة السلطانية في الحكم المطلق والاستبداد فقط ، وانما لغياب الفكر الشوري ومعاداة الفكر الوهابي للديموقراطية باعتبارها ديناً إلحادياً غربياً ، وكفراً معادياً للدين الاسلامي ، وشركاً بالله تعالى ، وناقضاً من نواقض التوحيد ، اضافةً الى الخوف من عامة السكان و التشكيك بدينهم او اتهامهم بالشرك و الانحراف و الضلال و الفسق و الفجور.
وسعياً من أجل حل هذه الأزمة وجدت من الضروري دراسة وتحليل الفكر السياسي الوهابي ، والغوص عميقا في نظرية "التوحيد" الخاصة ، التي طرحها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأقام على ضوئها حركته المعروفة التي افرزت النظام السعودي في مراحله الثلاث ، خلال القرون الثلاثة الماضية.
ان الظاهرة الديكتاتورية موجودة في كل زمان ومكان ، ولكنها تتمتع بخصوصية بارزة في التجربة السعودية ، وترتبط بعلاقة وثيقة بالتفسير الوهابي للدين ، بما يمكننا من القول بوجود ظاهرة خاصة في التجربة الوهابية تتجاوز حدود الديكتاتورية المعروفة في جميع أنحاء العالم ، والتي تتمثل في استبداد الحاكم بالسلطة المطلقة وإقصاء مختلف طبقات الشعب وفئاته وأحزابه ، إذ انها تبدأ هنا مع تكفير الحركة للمجتمع ومحاربته واستباحة دمائه وأمواله وإنكار أية حقوق انسانية أولية له . واذا كان النظام السعودي الحديث قد خفف من غلواء الفكر الوهابي القديم ، وتخلى عن الكثير من تطرفه ، الا انه لم يستطع التحرر تماما من التركة النفسية المرعبة للروح الوهابية المتشددة ، ولا يزال يتداخل معها ويتأثر بها ويدعمها ويستند الى الكثير من النظريات والمؤسسات والمدارس الوهابية المتطرفة.
ومع ان النظام السعودي عانى ويعاني من تطرف التفسيرات الوهابية وأحكامها المتشددة ضده ، الا انه يخشى ان ينفصل عنها تماما ، خوفا من فقدان القاعدة الاجتماعية والعصبية الحزبية التي تحتضن النظام . وقد استطاع ان يتجنب غضب القاعدة الوهابية عبر ضمان ولاء القيادات الدينية التقليدية (من آل الشيخ خصوصا) والتظاهر ببعض الشعائر الاسلامية وتطبيق بعض الحدود الشرعية ، واستغلال الفكر السياسي الوهابي الذي ينص على وجوب الطاعة للأمراء والخضوع لهم.
وفي الوقت الذي كان النظام السعودي يستفيد من الفكر الوهابي في تدجين المعارضة الوهابية ، كان يستخدم الحركة الوهابية كبعبع في مواجهة الحركات الشعبية المطالبة بالديموقراطية ، وذلك بالإيحاء اليها بامكانية سيطرة الحركة الوهابية على المجتمع ، وإمكانية فوزها في أية عملية انتخابية، واطلاق يدها في التعامل بشدة مع التيارات المختلفة العلمانية والطائفية والحزبية التي تعتبرها الوهابية كافرة ومرتدة ، وحث المعارضة الديموقراطية على القبول بالنظام السعودي واستبداده خوفا مما هو أعظم.
ولا يعني ذلك ان الصورة قاتمة جداً و لا أمل في التطور الديموقراطي في السعودية ، إذ أن ما يهون الخطب ويبشر بغد أفضل هو حدوث تطور مهم و ان لم يكن كبيرا في داخل الحركة الوهابية ، و ولادة حركات اسلامية ديموقراطية تعيد النظر في كثير من الأسس الوهابية . واذا قيض لهذه الحركات النمو والانتشار فانها يمكن ان تساهم في تغيير ملامح النظام السعودي أو بناء نظام اسلامي ديموقراطي جديد.
ولكي نتعرف على كل تلك التطورات والاتجاهات والتيارات لا بد ان نقوم بدراسة الحركة الوهابية ، ابتداء من (نظرية التوحيد) التي قدمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنى على أساسها النظام السعودي الذي منحه الشرعية والقوة والاستمرارية. وأثر تلك النظرية في تفجير الصراع الدموي العنيف داخل منطقة نجد والجزيرة العربية ، وقيام الدولة السعودية الاولى وانهيارها ثم قيام الدولة السعودية الثانية وتشكيلها لأرضية المقاومة في وجه الهيمنة المصرية (العثمانية) وما رافق ذلك من تفجر للصراع الداخلي بين أبناء الحركة الوهابية حكاماً ومحكومين ، وتكفير بعضهم لبعض.
ثم ننتقل الى الحديث عن نشوء النظام السعودي الجديد الذي ولد في بداية القرن العشرين على يدي الملك عبد العزيز بن سعود ، وطبيعته وملامحه وعلاقته بالحركة الوهابية ( الإخوان) التي اعتمد عليها أولاً في السنوات الاولى ثم قضى عليها بعد ذلك ، ونشوء المؤسسة الدينية الوهابية وموقفها من الديموقراطية و الديكتاتورية ، ونقوم بعد ذلك بجولة على أهم فصائل المعارضة الوهابية الموالية والخارجية ، ونتوقف أخيرا عند الحركة الديموقراطية الاسلامية لنرصد أهم ملامحها واحتمالات نجاحها وقدرتها على تشكيل البديل الاسلامي عن الحركة الوهابية.
وأرى من نافل القول الإشارة الى ضرورة الفصل بين الحديث عن الوهابية النظرية ، والوهابية في الواقع ، إذ ليس كل من حمل اسم (الوهابية) أو انتمى اليها في يوم من الأيام هو بالضرورة مؤمن بكل مقولاتها وملتزم بكل مواقفها و مترجم لكل ملامحها ، فان ثمة حركة ثقافية متطورة ومتشعبة داخل الحركة الوهابية ، وربما نجد بعض "الوهابيين" ليس له من الوهابية الا الاسم أو الهوية بالولادة ، ولذا ينبغي أن لا نقع في خطأ النظرة الى الآخرين وكأنهم كتلة واحدة جامدة لم ولا تتغير.
ان الحديث عن الوهابية هو نموذج للحديث عن الحركات الاسلامية المتطرفة التي تحتكر الاسلام لنفسها وتجرد الآخرين منه او تشكك في ايمانهم ، وانعكاس ذلك على آلية العمل السياسي والتوجه نحو الديكتاتورية والاستبداد.