تكملة لمحاضرة لسماحة السيد موسى الصدر ( الإسلام والثقافة )
النبي:
والنبي عبد من عباد الله، له ما لهم من الحالات والرغبات، ويشعر بما يشعرون من الصراع النفسي بين الخير والشر، بل يتبع في القول والفعل ومعاشرة الناس ما يوحى إليه، وإن لم يكن مطابقاً لمراضيهم، لكنه لا ينحرف ولا ينطق عن الهوى ولا يساير ولا يجامل رغبات الناس ولا يزن الأمور بالموازين الشائعة، يعيش ويهرم ويموت ويُحشر ويحاسَب يوم القيامة.
إنّ النبي (هو) عبد من عباد الله، لا ملاك ولا نصف إله، وبذلك يصبح قدوة صالحة للناس، إماماً لهم، سنداً حياً لواقعية رسالته، مثبتاً إمكانية تطبيق تعاليمه الدينية.
وقد ورد في القرآن الكريم: في سيرة الأنبياء (وفي سيرة النبي محمد) دلائل كثيرة على ذلك، وقد وجّه إليهم النقد والتشجيع والتأييد والتهديد والنصيحة والعتاب على بعض التصرفات، والنبي مع ذلك يتمتع بعناية الله ووحيه وتسديده، وبذلك يصبح قوله ورأيه وعمله ورضاه عن عمل الآخرين سيرة وأسوة حسنة للأمة.
فالصفة المميزة للنبي في الإسلام: كونه عبداً ورسولاً في نفس الوقت، وبذلك تبدو بوضوح أصالة الفكرة وعدم انفعالها بالعاطفة الطبيعية (كما يقول "برتراند راسل") لموقفها من السيد المسيح وتأكيدها أنه ما قُتل وما صُلب، حيث أنّ الإسلام المنكِر لصلب المسيح يؤكد أنّ كثيراً من الأنبياء قُتلوا في سبيل رسالتهم: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون (البقرة: 87)، فلا ينكر صلب المسيح لعاطفة الزمالة ولا تأثراً بآراء "نوستي سيزم"، بدليل موقفه (الإسلام) أيضاً من المسيح بالذات.
إذن: الرسالة مقام إنساني كبير لا ينـزع صفات البشر عن حاملها، والرسالة أيضاً مقام الاتصال بالله ونقل تعاليمه بكل أمانة.
هـ / المعاد:
والمعاد أيضاً عند الإسلام يتميز بخصائص مهمة تجعله فكرة ذات أصالة، مع أنّ المعاد من المبادئ العامة لجميع الأديان ولكثير من الآراء الفلسفية.
هذه الميزات تتلخص بأنّ الجزاء في يوم المعاد ليس إلا بنفس الأفعال الصادرة عن الإنسان: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء توّد لو أن بينها وبينه أمداً بعيدا (آل عمران: 30).
ويختلف هذا التفسير عن معاني الحقوق الجزائية وعن تفاسير المعاد في غير الإسلام، حيث أنّ الجزاءات هي نوع من رد الفعل الحسن أو القبيح، للانتقام أو للتأديب أو للإصلاح، فالعمل يختلف عن الجزاء عادةً، ولكن الجزاء في المعاد هو بنفس الأعمال التي تمثّل بالصورة المتناسبة لعالم الخلود.
والمعاد من جهة ثانية هو يوم بروز النتائج ووقت اكتشاف حقيقة الأعمال، وإلا فالجزاء حسب تحديد القرآن هو مقترن بالعمل هنا، لكنه خفي عن الأبصار: ذلك يوم الوعيد (ق: 20)، و لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق: 22).
ومن جهة ثالثة: فالمعاد عند الإسلام هو تمثّل الإنسان بجسمه وروحه للحساب لتلقّي حصاد عمره، والنقاش المعروف بين فلاسفة الإسلام الملتزمين إنما هو حول تحديد معنى الجسم الذي يُحشر، لا في أصل المعاد الجسماني.
والباحث يعرف بعد هذه الملاحظات مدى الفرق الواضح بين المعاد الإسلامي وبين معنى السماء (أو معنى عودة
الروح) عند المصريين القدامى (أو الوثنيين في الجزيرة)، أو انتصار النور على الظلمة عند المجوس.
وأخيراً: تبلغ الذاتية في الإسلام قمتها في قسم الأمثال وقسم التاريخ، حيث أننا نعرف اليوم مدى ثقافة الإنسان في أقطار العالم آنذاك، و(نعرف) مقدار معرفته عن العلم وعن التاريخ حال ظهور النبي محمد وحال نزول القرآن، إننا نعرف ذلك ولكننا نجد أنّ القرآن الكريم لم يتأثر أصلاً بالآراء العلمية السائدة في عصره والمعلومات التاريخية المعروفة عند البشر في ذلك الوقت.
فالآيات الواردة في الاستشهاد بحركات الشمس والقمر والنجوم والأرض وغيرها تكاد تنطبق على أحدث النظريات العلمية من دون تأثر بثقافة عصر نزول القرآن.
والآيات التي تنقل قصص الفراعنة، وخاصةً فيما يعود الى فرعون يوسف وتسميته بالعزيز، وفيما يعود الى غرق الفرعون المعاصر للنبي موسى ونجاته ببدنه، هذه الآيات لم تتأثر أصلاً بالروايات الشائعة في عصر ظهور النبي محمد، بل بعض المعلومات كانت خفية عن معرفة البشر الى زمن اكتشاف تاريخ الفراعنة بواسطة شامبليون.
2- الروحية في الإسلام:
هذا البحث أثار اهتمام كثير من الناقدين والمهتمين بالشؤون الدينية، وقد قرأتُ طويلاً وسمعتُ الكثيرين يناقشون هذا الجانب من الإسلام يقفون عند تدخل الإسلام في الشؤون المادية، وعند مقابلة التعدي بالمثل (الكيد بالكيد)، وعند الاهتمام بالزواج والتأكيد عليه، وحتى الجنّة (عند الإسلام) التي تشبَّه ببستان فيه حور وقصور وأنهار من عسل ولبن وغير ذلك.. (وحياة أبطال الإسلام وقادة المسلمين تؤكد هذه الملاحظات أيضاً).
ولقد تجاهل بعض هؤلاء الباحثين الروحية المتناهية التي تتجلى في العقائد الإسلامية في الخالق وصفاته وأسمائه، و(التي تتجلى) في الإيمان بالغيب (الركن الأساسي للإسلام في القرآن).
ومهما كان: فعلينا أن نناقش هذا الموضوع بصورة موجزة بعد إلفات النظر الى مقدمة إيضاحية.
إنّ التقليد الشائع يقتضي تقسيم الأشياء وأعمال الإنسان بالذات الى مادية وروحية، وحسب هذا التقسيم يبدو أنّ لنا أموراً مادية (..) نظير الأكل والشرب والزواج والتجارة وأمثال ذلك.. ومقابل هذه الأمور: فالصلاة والعبادة والفداء والتضحية والانصراف الى التفكير.. كل ذلك يُعدّ من المعنويات أو الروحيات، لأنّ القسم الأول هو أمور زائلة تناسب جسد الإنسان ورغباته الآنية، والقسم الثاني هو تلبية لميول سامية ولرغبات روح الإنسان وقوامها.
والحقيقة أنّ هذا التقسيم خال من الدقة، ولا ينطبق على التفسير الفلسفي ولا على التعاليم الدينية، ولا يحظى بإقناع روح المؤمن الفاحصة.
فالمادة في التفسير الفلسفي كل موجود يحتاج الى الحيز والأبعاد، أو كل موجود متحرك الذات متطور الحقيقة، والمجرد ما ليس له أبعاد وما لا يحتاج في ذاته الى زمان أو مكان أو حركة.
وعلى هذا التفسير: فجميع الحركات الصادرة عن الإنسان هي مادية، حتى العبادات والفداء والإحسان، وحتى التفكّر: فإنه يقترن بخلايا الدماغ التي هي مادية، ولا يتمكن الفيلسوف أن يتصور انفصال الجسم عن الروح وصدور أفعال من أحدهما بمعزل عن الآخر لكي يسمي بعضها أفعالاً مادية وبعضها الآخر أفعالاً روحية، بل إنّ التفاعل بين الجسم والروح يبلغ درجة تجعل منهما عند كثير من الفلاسفة تركّباً اتحادياً، وقد أبدع صدر الدين الشيرازي حيث
جعَل الروح ذات حدوث جسماني وبقاء روحاني.
فالميزان الصحيح لمعرفة ماديّة شيء وروحيته يعود في أعمال الإنسان الى باعث العمل وغايته، فكم من صلاة أو صدقة أو تفكر هي من المادة في الصميم، وما أكثر الأعمال المادية الاجتماعية أو الإدارية التي تصدر لغايات سامية، فتجعل منها عبادات مقدسة، ومن جهة أخرى: إذا لاحظنا أنّ جميع الموجودات من خلق الله وجميع جوانب وجود الإنسان حقيقة واقعة تُبرز الإرادة الإلهية، إذا لاحظنا هذا كله فمن الصعب جداً أن نفرّق بين وجود وآخر وأن نميّز بين جانب وعمل وبين سائر الجوانب والأعمال.
من الصعب التفريق والتمييز إلا إذا انحرفت الشمس عن الخط الكوني والمركز الطبيعي الذي خُلق لها، وإلا انحرف الإنسان بعمله عن الرسالة الحياتية التي أرادها الله له.
والآن نعود لكي نبحث عن الجانب الروحي من الإسلام، ونقول: إنّ الإسلام يقدّس جميع الموجودات الكونية ويعتبرها بمادّياتها ومعنوياتها كلها ساجدات لله مسبحات بحمده، حتى الموجودات الشريرة أو الضارة، فشرورها وأضرارها نسبية، وإذ استُعملت بقدرها وفي موضعها فلا شر ولا ضرر.
وبالنسبة الى الإنسان: يعترف الإسلام بجميع جوانب وجوده وجميع رغباته، ثم يحاول تنظيم صِلاته بغيره وتنسيق نشاطاته وتعديل رغباته حتى يلعب دوره الكوني، أي: دور خلافة الله في الأرض، فيعيش بجميع جوانب وجوده أفضل عيش وأطيبه وأكثره تمتعاً بالكون.
وفي هذا الخط، خط أداء الواجب مع الحياة الطيبة الكاملة: كل عمل من الإنسان، وكل حركة منه إنما هي مقدسة وعبادة (والعكس بالعكس).
وهكذا: نرى أنّ الإسلام يعطي صفة الروحية لجميع أعمال الإنسان الصادرة عن باعث سليم، ويصبغ جميع الموجودات بصبغة القداسة، فالأصح في التعبير ألا نقول بضعف روحية الإسلام، أو اهتمامه بالماديات، بل نقول بقوة هذا الجانب الى حد يحوّل كل شيء الى الروحيات، ولعل السبب في تعبير القرآن في أغلب المواضيع بالنفس دون الروح لأجل هذه المقارنة، حيث أنّ الروح المهتمة بتصريف شؤون الجسد تسمّى نفساً، والروح إسم خاص للشأن التجردي المطلق الذي يتجلى عند نزول الوحي وتدبير الشرح والذي يواكب الملائكة في بعض الآيات القرآنية.
ومن أطرف ما يُرى في الأحكام والتعاليم الإسلامية أنها تؤكد على أنّ ما خلَق الله من الزينة والطيّبات هو خُلق للإنسان، وتوجّه (الأحكام والتعاليم) اللوم لمن حرّمها (الزينة والطيبات)، إنها تؤكد على هذه، ومع ذلك فقد جعلتها فتنة، وذلك تأكيداً على أنّ النِعم كلما ازدادت وأنّ الأموال كلما كثرت وأنّ الجاه كلما عرض.. يجب بنفس القياس الازدياد من الإيمان والإكثار من التقوى، وإلا فالإنسان يقع في خطر الانحراف عن السيرة والالتهاء بالجانب الشخصي عنها والاستسلام لها.. قال علي: "ليس الزهد ألا تملك شيئاً بل الزهد ألا يملكك شيء".
وعلى ضوء واقع الإنسان وواقع الخلق وتفسير المعاد وكون الجزاء بنفس الأعمال، على ضوء هذه الأمور نفهم واقع الجنة والنِعم التي هيأها الله لعباده المتقين.
وقد حاول القرآن الكريم أن يسبغ على النِعم هذه صفات روحية كالخلود والطهارة وعدم السأم ووجود الصفاء وشمول الأخوّة وعدم استماع اللغو والإثم إلا قيل سلاماً سلاماً، ومع ذلك كلّه جعل رضوان الله أكبر نعمة من الجنّة وأفضل، وذلك للنفس الكبيرة التي كانت تقول: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك".
أما حديث مقابلة التعدي بمثله من دون ظلم ولا تجاوز فهو جزء من النظام العام الذي وُضع لصيانة المجتمع وسلامته وحفظاً للإنسان، وسوف نبحثه في القسم الأخير من محاضرتنا.
وأحب أن أذكر هنا نقطة واحدة هي أنّ الإسلام في هذه المواضيع اعتبر العفو خيراً وأقرب للتقوى إذا كان لا يوجب تمادي الطغيان، بل (إذا كان يوجب) الركون الى النظام، وإلا فهو ظلم يُعدّ الإنسان به أحد الظالمين.
3- شؤون المجتمع:
إنّ الإسلام لم يكتف في تعاليمه بالعقائد وبالتوجيه الخلقي، بل قدّم نظاماً عاماً يشمل صلات الفرد بالآخرين وبالدولة وتنظيمات إدارية ودولية، فضلاً عن قوانين الأحوال الشخصية.
هذه التدخلات التفصيلية في الشؤون الحياتية تفتح مجالاً للتساؤل عن سببها، ثم: هل بالإمكان وضع نظام ديني يتمتع بالقداسة والثبات للمجتمع وشؤونه المتطورة في كل عنصر؟.
ولأجل إيضاح هذه النقطة التي أعتبرها أهم النقاط في هذه المحاضرة، والتي تجاوز السؤال عنها نطاق الكتب الباحثة عن الإسلام، بل أصبحت مجالاً لتساؤلات الجميع (حتى المسلمين أنفسهم)، لأجل إيضاح هذه النقطة نطرح أولاً هذا السؤال: هل الذين يكتفون أو يريدون من الأديان أن تكتفي بالإيمان والأخلاق يعتقدون أنّ صيانة الإيمان والمحافظة على الأخلاق الحسنة أمران ممكنان لمن لا يرتبط في عمله الخارجي بخط يتناسب مع الإيمان والأخلاق المذكورين؟.
هل الإنسان الذي يُعدّ موجوداً واحداً (لا موجودات متعددة)، هذا الإنسان: هل يتمكن أن يعزل روحه عن تأثيرات جسده أو يمنع جسمه من التفاعل بروحه والإيمان والأخلاق اللذين هما من أفعال النفس، هل يمكن إبعادهما عن تأثيرات أعمال الجسد؟.
طبعاً الجواب واضح: فإنّ التفاعل بين جوانب وجود الإنسان أمر بديهي، ولهذا: لأجل صيانة الإيمان والأخلاق لا بد من أن يتقيد الإنسان بعمله وأن يرتبط برباط يتناسب مع الصيانة الروحية المذكورة، والقرآن الكريم (مثل بقية الكتب المقدسة) يؤكد هذا التفاعل ويعلن أنّ ممارسة الأعمال تنـزع الإيمان عن القلب: ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون (الروم: 10). ثم: هل من المعقول أن يعيش الإنسان في مجتمع يناقض الخط الذي يسلكه في عمله ويتنافى منع إيمانه وأخلاقه.. وهو لا ينفعل بذلك المجتمع!.
إنّ الإنسان في تكوينه.. في حياته.. في حاجاته.. في وعيه.. في تفكيره.. وفي جميع جوانب حياته: الإنسان في جميع ذلك موجود اجتماعي يتفاعل مع مجتمعه الذي يعيش فيه، فهل يمكنه أن يعزل إيمانه وأخلاقه وأعماله الشخصية عن تفاعلات مجتمعه؟، أعتقد أنّ الجواب عن هذا السؤال أيضاً واضح، ولهذا فقد أكد الإسلام على لزوم إيجاد مجتمع يتناسب مع الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة، وأعلن بصراحة: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع"، أكرر كلمة "ما آمن" لكي ننتبه الى التناقض الذي يراه الإسلام بين الإيمان وبين سوء الوضع الاجتماعي الذي يوجب هذه الظاهرة. وعلى هذا الأساس نجد أنّ الإسلام (الذي يؤكد نبيّه: "إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق") يحـاول
لأجل التمكن من هذه الغاية أن يتدخل في الحياة العملية للإنسان، ثم في الحياة الاجتماعية، فيضع لذلك مبدأ الحلال والحرام، ولهذا: فالأنظمة القانونية الواسعة أصبحت قريب النصف من التعاليم الإسلامية.
فلندخل فوراً في مطالعة السؤال المهم الذي ينبع من صعوبة انسجام القوانين الثابتة مع المجتمع المتطور، والجواب عن هذا السؤال يحتاج الى عرض ثلاثة أمور:
أولاً: إنّ التطور في الحياة وفي التاريخ البشري معناه تفاعل الإنسان مع الكون، فالإنسان في كل يوم تزداد تجاربه وتتقدم علومه، فيكشف أشياء جديدة عن الكون، ثم يستعمل معرفته الجديدة ويمارس وعيه الجديد، فيستفيد من القوى الكونية المكتشَفة ويطوّر بذلك حياته الشخصية والاجتماعية وينتقل الى فعل جديد من التاريخ البشري الطويل.
فالتطور هو قراءة الإنسان سطراً جديداً من كتاب الكون، و(يعني) أنه في صفحة جديدة من هذا الكتاب و(أمام) آثار هذه القراءة من ممارسة معرفته الجديدة والتغيرات الناتجة عنها.
هذا مفهومنا عن التطور، وإلا فليس هناك موجب للتطور يدخل من عالم الى آخر في حياة الإنسان وفي العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ليس هناك شيء يطوّر حياة الإنسان من الخارج (..).
إنّ التطور هو تفاعل الإنسان مع الكون فقط، والمعروف أنّ الإنسان والكون عنصران كانا في مسرح الحياة من أول الخلق، ما زاد فيهما شيء، ولا نقص منهما شيء، بل تبدأ صفحة جديدة من الحياة بكل كشف جديد للإنسان عن الكون.
ثانياً: إنّ الدين (حسب رأي الإسلام) شريعة وضعها خالق الكون والإنسان (أي: الله سبحانه)، فهو حيث أنه خالق للكون يعرف جميع جوانب وجوده.. ظواهره.. وبواطنه.. ويعرف أيضاً جميع جوانب وجود الإنسان وجميع حاجاته ورغباته، إنّ الله يعرف هذا كله، فوضَع قوانين لكي يتمتع الإنسان بالكون فيحيى حياة طيبة كاملة، تماماً مثلما تضع مؤسسات صنع السيارات توجيهات لصيانة السيارة والاستفادة الكاملة منها، لأن المؤسسة خبيرة بكيفية صنع السيارة ومشخّصاتها وطرق الاستفادة الكاملة منها.
ثالثاً: قلنا أنّ الله خالق للكون وعارف به، وخالق للإنسان وعارف به، وقد وضع نصوصاً وتوجيهات لكي يعيش الإنسان في الكون حياة طيبة كاملة.
وحسب رأي الإسلام أيضاً: صنَع الله الشريعة والتوجيهات المذكورة بكلمات صادرة عنه هي الآيات القرآنية، حيث أنّ الإيمان الإسلامي يرى أنّ القرآن مَنـزلة بألفاظه بعينها، والمعروف أنّ كلام الله يختلف عن كلام البشر تماماً، حيث أنّ فهم كلام البشر محدود بمستوى معرفة القائل، ولا يمكن التجاوز لهذا الحد، وكلما ازداد مستوى معرفة المتكلم ازداد إمكان تفسير كلامه والتعمق فيه، ولهذا السبب يتعمق القضاة والمحامون في تفسير نصوص القوانين الى درجات تتجاوز حدود تفسير كلام العامة من الناس.
وحيث أنّ مستوى معرفة الله لا حد له، فيمكن الاعتماد على جميع مراحل مدلولات كلامه، وكلما ازداد التعمق فيه يتبين معنى جديد لكلامه.
فكـلام الله من هذه الناحية مثل الحقائق الكونية، بل هو بعينه من الحقائق الكونية يُكتشف منه في كل مرحلة
شيئاً جديدا: كما تظهر كل يوم صفحة جديدة من حقيقة الإنسان (بمعرفته الجديدة).
وبعد عرض هذه المقدمة نعود الى الجواب عن التساؤل المذكور، فنقول: إنّ الإنسان له تفاعلات مع الكون تشكّل أساس التطور، وهذه التفاعلات تنظّمها شريعة الله، ولها أيضاً مع كل مرحلة من التطور تعاليم متطورة تتناسب مع المرحلة التي يعيشها الإنسان، فتنظّم الصلات والتفاعلات الثابتة بين الإنسان والكون، وخلاصة الجواب أنّ على مسرحنا عوامل ثلاثة يواكب كل منها الآخر باكتشاف مراحل جديدة وحقائق جديدة.
وبهذه الطريقة الموجزة يمكننا أن نحتفظ بصفة القداسة للأنظمة الدينية العائدة للإنسان والمجتمع، مع إفساح المجال لتطويرها في الإطار العام الذي يتضح للباحث عنها، فالتعاليم المتطورة تحتفظ بإلهيتها وقوتها وقيادتها، حيث أنها مستقاة من القواعد الثابتة الدينية